dimanche 30 août 2009

مقولات نيتشوية

انّه لا ينبغي على الانسان العارف ان يحب اعدائه فحسب بل عليه كذلك ان يكون قادرا على كره اصدقائه .

*انّ الدعوة الى العفّة تحريض عمومي على معاكسة الطبيعة..و كلّ تحقير للحياة الجنسيّة و كل تدنيس لها بفكرة "الدنس" هي الجريمة بعينها في حق الحياة..الخطيئة الحقيقية في حق الروح القدس للحياة.

*انا لا اقرأ باسكال بل احبه كنموذج مفيد لمن ذهب ضحية المسيحية بقتل نفسه جسديا في البداية ثم روحيا فيما بعد.

*لعلي ايضا احسد ستاندال؟؟ فقد سبقني الى اجمل نكتة الحادية كان من الممكن ان اكون انا قائلها "ان العذر الوحيد لله هو كونه غير موجود"..لقد قلت بدوري في موضع ما: ماهو اكبر اعتراض على الوجود الى حد الان ؟ الله...

*ليس بالعداوة يمكن التغلب على العداوة , بل بالصداقة يؤتى على العداوة
*ان القول بضرورة الاعتقاد بان كل شيء مسيّر بيد حكيمة و ان كتابا محددا , الانجيل,قادر على ان يمنح طمأنينة نهائية بشأن التسيير الاهي و الحكمة الربانية , يعني مترجما الى لغة الواقع, ارادة طمس الحقيقة التي تشهد بواقع معاكس يبعث على الشفقة, الا وهو ان الانسانية ظلت الى حد اليوم مسيّرة بأسوأ ما يوجد من الايدي و محكومة من قبل الخاسرين و المحتالين المتعطشين للانتقام و "القديسيين" المزعومين, اولائك المفترين على الحياة و الانسان

lundi 17 août 2009

التعليم البديل

اولت الحركة الاسلامية التونسية "الاخوانجية" اهمية كبيرة للتربية بداية من اتباعها و مناهج تكوينهم وصولا للتفكير في تغيير مضامين برامج التعليم بالمدرسة التونسية ..و حسب ما فهمت انا كيما دربت الحركة اتباعها وفق نمط فكري وحيد بش يخرجو في الاخر صبة وحدة من الناحية الفكرية و السلوكية بدون ما يش ما يخرجش على العادة و ما يطرشقش اي حكاية جديدة و يقعد نسخة عن اخوانو حبت تكون الاجيال القادمة عندها نفس "البروفيل" متاع الانسان اللي ما يرى كان من زاوية وحدة و ما عندوش الحق يلعب منّا و الا منّا..غير انو ها التكوين متاع حشو الادمغة اللي تطمحلوا الحركة ما شملش الناس الكل خاتر فما عباد قراو من برامج متطورة و نهلوا من مشارب فكرية متعددة ساهمت في تكوين الحس النقدي عندهم ..ها النسبة من طلبة العلم ما عجبوش الخوانجية اللي هوما بدورهم بداو يفكروا في تغيير روح المدرسة التونسية و كانت مادة الفلسفة اول هدف عندهم خاتر من المعلوم انهم طالبو بتحويرها و مراجعتها بطريقة تفقدها ماهو جوهري فيها..ها الملاحظات هاذي نلمسوها من خلال مقالات راشد الغنوشي في مجلة "المعرفة" الناطقة بعصارة افكار الاسلامين التوانسة..المقالات اسمها "برامج الفلسفة و جيل الضياع"و مقال اخر يعرف "الفلسفة تدمير و تخريب" و يقول فيه "ان درس الفلسفة ليس عديم الفائدة في علاج ما نعانيه من مشكلات فحسب بل عنصر تخريب و تدمير و تشتيت في ميدان النفس و المجتمع ..و هذا هو الحال الذي نحن عليه الان"..يعني سيادتهم يراو في الفلسفة فساد في المجتمع في الوقت اللي الكلنا نعرفوا اللي ها المادة تربي الانسان على التسامح و تساعدو على فهم انو رغم خصوصياتو التراثية يقعد ديمة قريب للانسان في اي بلاصة من بلايص العالم لاشتراكو معاه في الانسانية موش على المستوى البيولوجي فقط بل في جملة من القيم و المثل باعتبار الفلسفة تجمع البعد الانساني العام و البعد التراثي الخاص اللي من خلالو نفهموا الكون و نحسوا بقربنا للمجتمع و للاخرين و كلها اسباب خلات الاسلاميين يراو فيها "تهود و تنصر جيل ابنائنا " و جعلهم يشيخوها كلام باااهي خلال الحملات المسجدية و اثناء خطب الجمعة ..الادهى و الامر انهم ما يحكيوش على الفلسفة عامة اما حتى على الفلسفة الاسلامية اللي يقول عليها الغنوشي "اما عن دروس الفلسفة المدعوة اسلامية فهي حتما مهزلة المهازل ..ماذا يهمنا ان نعرف موقف المعتزلة من صفات الله و موقف ابن رشد من الكون هل هو قديم ام محدث و رأي ابن سينا في النفس و خلودها و موقف الاشعري في الكسب و القضاء و القدر و قضية هل القران قديم ام محدث ..الم ياتي الاسلام ليقدم حلولا عملية" ..الكلام كيما هذا يدل على انو زميم الاسلاميين التوانسة يستثني كل حق للجدل الفكري و كل تخديم مخ لفهم قضية من قضايا الوجود ..كلها امور مرفوضة خاتر الاسلام جاء بحلول عملية و ها الحلول ما يعرفها كان الغنوشي و هو يرشح نفسو بش يدل الناس عليها اللي لازمهم يكونوا مستسلمين ليه بما انو الامير ممثل الاه في الارض..

التغيير في المدرسة التونسية ما اقتصرش على التغيير في مادة الفلسفة بل تجاوزها لمادة العربية من خلال محو كل دعوة متفتحة للاقتباس عن الغرب و اعادة البناء الحضاري في العالم الاسلامي خاترهم قوم منحل ..الشي كيما هكة ما نستغربوهش من عند الخوانجية اللي اتهموا مجتمعنا التونسي المسلم بالكفر و دعاو اتباعهم بش ينفصلو عليه و يتجنبوا التاثير بيه ..يعني كيفاش كان ناسهم و اماليهم ما شجعوش على التعامل معاهم كيفاش نحبوهم يشجعوا على التفاعل مع البرانية؟؟؟

صلاح الدين الجورشي يقول في مجلة المعرفة اللي "رفع شعار الالتحاق بركب الحضارة انما هو تعميق للتخلف ووسيلة للانتحار " و يضيف انو "الشلل لا يكمن في قلة المال و لا قلة الرجال و لكنه كامن في جرثومة تسمى الالتحاق بركب الحضارة" و يقول في موقع اخر متهجما على طه حسين زعيم تيار التلاقح مع الغرب"عجبا من العقل التي استوت فيه الاضداد" ردا على كتاب "مستقبل الثقافة في مصر"و يقول فيه "ان نسير في العلم الاسلامي سيرة الاوروبيين و نسلك طريقهم لنكون لهم اندادا و نكون لهم شركاء في الحضارة" و ردا على دعوة طه حسين لتقليد الغرب في النظام الديمقراطي ورد في مجلة المعرفة "كنا نظن ان الديمقراطية ولدت في اثينا و قبرت هناك فما هالنا الاو الديمقراطية بطاقة انتخاب و صناديق اقتراع يتلهى بها" الاحرار" في كل مكان" ها العداوة هاذي جاية من رفضالخوانجية لنظرية طه حسين حول الخلافة و العلاقة بين الدين و السياسة اللي اكدها طه حسين في نفس الكتاب "ان المسلمين قد فطنوا منذ عهد بعيد الى اصل من اصول الحياة الحديثة هو ان السياسة شيء و الدين شيىء اخر" و كالعادة نقاو الرد في "المعرفة " " الا تعرفون من الدكتور طه حسين انه ليس صاحب النظارات السوداء و الجبهة العريضة انه كل شخص تربى في المحاضن الاوروبية مع اكياس من الشهائد و الاوسمة و هؤلاء حملة اكياس الثقافة و العلم هم حملة الحلول المجانية المستوردة التي توهم بالغنى و افضل بدونها الفقر "
و هكة يقع الرد على طه حسين بهجوم شخصي رخيص يذكرني بفازة ما نعرفش فين ريتها ها الايامات ...من الاهداف اللي يرصد فيها التوجه الاسلامي التونسي في السنوات 70-80 هي تضييق دائرة الكتب و هاذا نلمسوه من خلال انحصار متزايد للكتب باستثناء الكتب الدينية متاع عذاب القبر و الحبة السوداء و سحر هاروت و ماروت و تعلم الجنس في سبع ايام اما الكتب الاخرى فقد كانت محاصرة و مجتمعنا التونسيعندو شعور فعلي بانو التنظيم الاخواني يعمد الى افراغ السوق من المؤلفات النيرة و الافكار النقدية و دليلنا "البوكينيست" اللي عندهم فكرة على الهجوم اللي يقع على المعرض السنوي للكتاب من طرف التنظيم الاسلامي بش يقتنيو الكتب غير الصالحة و يدمروها الحكاية كيما هكة ترجع بينا لحادثة وقعت في مصر يوم 25 نوفمبر 1947 تحت اعداد الاخوان اللي اتجهوا نحو المكتبات و هاجموهم الكل لاتلاف الاثار الاسلامية و كيما يقول الفرنساوي "الشاهية تتحل مع الماكلة" النهي شمل كتب طه حسين و قاسم امين و الكواكبي و العباد اللي اختارت طريق نهضوي اخر غير الارهاب ..صلاح الدين الجورشي يعترف انو تعقب احد الكتب اللي مازلت كي صدر و يقدم حقائق عن سيرة حسن البنا و مواقفوا اللي تنجم تزعزع عقيدة الاتباع و ايمانه بتنظيمهم ..المهم هو ان لا تعرض عن الحركة الاخوانية كتب عندها سمة نقدية عن حركة الاخوان

حاصيلو زايد..ديمة السياسة تقعد لعبة قذرة.

jeudi 13 août 2009

هذا هو الله كما اتصوره

كانوا كلهم يتحدثون عن الله كشرطيّ..
يأخذ الناس الى الحبس ..
و يشنقهم بطريقة غامضة ..
اما انا فقد كان الله صديقي..
كنت اتصوره بستانيا لديه حديقة كبيرة..
مفتوحة ليلا نهارا لكل المواطنين في العالم..
كان في الحديقة اشجار تنظم الشعر في الليل ...
وتأخذ قيلولة في النهار ...
وكان فيها عصافير تمتهن التأليف المسرحي..
و كان الغروب فنانا هوايته التصوير بالالوان الزيتية...
وكان في الحديقة اراجيح للاطفال...
وقطارات كهربائية تاخذ الاولاد الى محطة القمر و تعيدهم
و في يد كل واحد منهم تفاحة حمراء مستديرة كوجه القمر ..
وكانت فيها بحيرات ذهبية المياه ..
يغطس الصغار في ضفتها اليمنى
و يخرجون من الضفة الثانية
و قد اصبحوا سنابل قمح
و كان فيها مقاعد من خشب الورد..محجوزة لكل عشاق العالم ..يدخلون فيها متى يشاؤون..و يمارسون الحب متى يشاؤون..
دون ان يسألهم احد على اسمائهم او عن جوازات سفرهم او عن طائفتهم....
هكذا كنت اتصور صديقي الله..بستانيا قزحي العينين..اشيب الصدغين ..يلبس دشداشة بيضاء..ويجلس تحت شجرة ياسمين ظليلة و كلما جاءه عاشق..قدم اليه ياسمينة ..وقال له
(ادخل ياولدي...
ادخل ياولدي..
فليس لدينا هنا تذاكر دخول ..
فبالحب وحده..
تدخلون جنتي..
وبالحب وحده..
كلكم رعيتي)..
هذا هو الله كما اتصوره..
وهذا هو الله الذي اناجيه و اناديه و احبه..
فلماذا يصرون على ادخاله في بازار السياسة المحلية؟؟؟
لماذا يريدون ان يجروه الى هذه الارض الصمغية اللزجة المتحركة الرمال؟؟
لماذا يريدون تلويث يديه الناصعتين الطاهرتين بفحم السياسة و هبابها؟؟؟
لماذا يريدون ان يدخلوه في تجمعاتهم..وتنظيماتهم..وميليشياتهم..وتشكيلاتهم السرية و يصرون على اعطاءه البطاقة الحزبية؟؟؟
لماذا يتكلمون باسمه؟؟
ويتسلحون باسمه؟؟
وينصبون المتاريس باسمه؟؟
ويخطفون الناس باسمه؟؟
ويقتلون باسمه؟؟
هل يمكنني ان ادافع لمدة خمس دقائق..خمس دقائق فقط..عن هذا الذي يتفرج عليهم من نافذته السماوية..وهم يبيعون و يشترون و يغشون و يحتالون..ويدعون انهم وكلاؤه القانونيون بموجب وكالة رسمية؟؟؟؟


نزار قباني

mardi 4 août 2009

le cinema des cicatrices

قريت في اول الصيف في مجلة "جون افريك" على جنس من الادب يعرف
"بأدب اثار الجروح" و هو جنس ظهر في الصين على اعقاب موت ماو و فيها برشة حكايات على العذاب الاليم و القمع للطبقة المثقفة و لكل نشاط سياسي معارض و الوجع اللي قاسى منو الشعب الصيني في خضم التجربة الماوية ..كلمة" اثار الجروح" قلقتني واثارت في برشة تأملات خاصة عند تذكري للي حكاولي على اضطراب فترة السبعينات في الكليات و في الشارع التونسي بصفة عامة .. قلت علاش ما نلصقهاش بالسينما و تولي "سينما اثار الجروح" خاصة انو جاء في مخي فيلم 'ولاد لينين' لنادية الفاني اللي شخصيا نرى اللي المخرجة ما افلحتش فيه لتركيزها نوعا ما على تاثرها بتجربة والدها المناضل الماركسي السابق و فيلم" صفائح ذهب" اللي يأرخ لمرحلة هامة من تاريخ تونس الحديث و هو ضرب السلطة للحركة التونسية اليسارية الماركسية المعروفة بافاق نسبة لمجلتهم برسبكتيف و الي رأت النور في اواخر السبعينات وهو فيلم للنوري بوزيد اللي قضى 6 سنوات في السجن بعد ما كان عنصر نشيط في الحركة هاذي اللي حذرت من مغبة تشخيص الحكم و احتكارو من قبل شخص واحد و حزب اوحد ما نيش بش نحكي ياسر على برسبكتيف اللي كلات على راسها من جرة السياسة الديمقراطية البورقيبية المثلى .. يعتبر صفائح ذهب من الاعمال القلائل اللي حكات على اليسار التونسي اذاكة علاش انا شخصيا نحسبوا وثيقة تاريخية ..الحاجة اللي تقلق في الفيلم هذا هو المسحة البكائية ...عالج النوري بوزيد القضية متاع الفشل على اساس انه مناضل ملتزم وموش فنان اي دون تفكير رصين في تحديد مسافة نقدية بينه و بين الاحداث المسرودة ...تلك المسافة التي كانت ربما تسمحلوا انو يوجد صيغة حكائية و فنية ملائمة و باهية في تناول عقبة هامة من تاريخ تونس ..ها النزعة المأسوية راوها النقاد تتجلى في مشهد الحصان في المذبح او اللقطات المتعددة اللي نرى فيها الدم يغمر الزنق اللي يتسكع فيها المناضل يوسف سلطان وهو سكران و محبط ...برشة فنانين علّمونا اللي يمكن التطرق الى اقسى التجارب و المحن بطريقة ساخرة هازئة غير انو النوري بوزيد ما ينتميلهمش لافتقار الافلام متاعو للمزاح و التهكم كيما قالها في نقاشات افلامو ..المزاح و النكتة هوما اعداء التكلس و التحجر الايديولوجي .."الادلجة"(جاية من ايديولوجيا ) المسطحة واضحة في فيلم صفائح ذهب مثال المواجهة في المذبح بين الاخوين العدوين , اليساري الماركسي و الاخ المتدين , هو مشهد ضارب في الواقع لكن واقع الحس العام و الخطاب الايديولوجي الهين و ليس واقع الفن و متطلباته التي لا تخضع للاسقاط الايديولوجي المبتذل و البدائي ..حركة الخوانجية نشأت على انقاض الحركة اليسارية ..هذا المعنى الاجمالي اللي يصرح بيه المشهد متاع المواجهة بين الاخوين ..توة نتساءلوا هل انو الامور تمت فعلا كما يقدمها نوري بوزيد في فيلمه ؟؟ تصوير ظاهرة الاسلاميين بهذه الطريقة السطحية ا ليس فيه اسهال و عدم وعي بالجذور العميقة و بالدوافع الدفينة لظاهرة لها جمهور عريض في الاوساط الشعبية و غيرها؟؟ قليلون هم المبدعين العرب اللي كانو ملحدين او لائكيين اللي حاولو يفهموا ظاهرة الخوانجية اي استبطان عالم الخوانجية بثوابتو و معتقداتو و شعاراتو و شعوذتو ..
الاشكال الثاني في صفائح ذهب هو اعتماد المخرج رمزية مبسطة جدا للتأكيد على قمع اليسار الماركسي و اجهاض احلامه من قبل الحكام ..هل كان ضروريا تصوير حصان خائر يذبح في المذبح ؟؟ و هل من المبرر لتكرار المشهد مرات عديدة ؟؟ ام هل ان التكرار يستجيب لرغبة ملحة لتكثيف العارض و هو التذكير بتجربة قديمة مؤلمة غير قابلة للاختزال او لعملية متاع "ديشارج " بسيطة؟؟هل ان السينما تلقى ضالتها في اعتمادها مبدأ اضطرار التكرار ؟؟ من ناحية اخرى
فما نقاد يقولو علاش ما كانش النوري بوزيد هو البطل عوض يوسف سلطان و عابوا عليه على الظهور الا في بعض اللقطات في صفائح ذهب مثلا نراه صحبة "عم خميس",رجل الشعب السكير المسن صديق اليسار يتدرب على لعبة "عقدة الحبل" الذي يتفنن فيها عم خميس و يفشل النوري بوزيد في المسك بسر اللعبة ..فهل في ذلك دلالة على خسارة اليسار الماركسي الرهان لانه لم يحذق فن اللعبة ؟؟ لعبة الدهاء و الخبث و عدم اخذ الامور بجدية مفرطة ؟؟ ام هل فشل اليسار الماركسي لانه لم ينفذ الى روح الشعب و لغته ؟؟

lundi 3 août 2009

المقاربة السبينوزية للدين و السياسة



ماهي المشكلة الأساسية في عصر سبينوزا؟ بل ما هي المشكلة الأساسية على مدار ثلاثمائة سنة من تشكل الحداثة الأوروبية؟ إنها مشكلة الدين والأصولية الدينية. إذا لم نفهم هذه النقطة، إذا لم نعرها الاهتمام الكافي فإننا لن نفهم أبداً جوهر الحداثة ومعاركها الكبرى. عندما نشر سبينوزا كتابه "مقالة في اللاهوت السياسي" عام 1670، فإن ذلك يعني أنه انخرط في إحدى المعارك الرهيبة التي استمرت بعده طيلة مائتي سنة وأكثر. لقد أراد تحديد العلاقات بين الدين والسياسة، أو بين رجال الدين ورجال الحكم. وأراد أيضاً، وبالدرجة الأولى، البرهنة على الشيء الأساسي التالي : وهي أن حرية التفلسف، أو حرية الضمير والمعتقد والكلام، لا تضرّ أبداً بالسلام العام للدولة ولا تؤدي إلى الفسق والفجور كما يدعي اللاهوتيون. على العكس، إنها شرط أساسي لتحقق هذا السلام ولشيوع الاستقامة والنـزعة الأخلاقية في المجتمع. وبالتالي فلا ينبغي التضييق على الحرية الفكرية أو الفلسفية ما دامت تعبر عن نفسها داخل حدود القانون.
في الواقع إن هذا الكتاب يمثل أول تدخل لسبينوزا في الشؤون الدينية والسياسية لزمنه. ولذلك فهو يحتل مكانة خاصة بين أعماله. فهو قد ظهر في مرحلة حرجة من تاريخ هولندا. فالجدالات اللاهوتية كانت عنيفة بين مختلف الطوائف المسيحية وبالأخص البروتستانتية الكالفينية التي كانت تشكل دين الأغلبية. وذلك على عكس فرنسا، أو إسبانيا، أو إيطاليا حيث يسيطر المذهب الكاثوليكي بشكل مطلق تقريباً. وقد أدت هذه الصراعات اللاهوتية بين مختلف الطوائف البروتسانتية إلى انتصار المذهب الكالفيني أولاً، وذلك قبل أن يحصل تعايش سلمي إلى حد ما بين مختلف هذه الطوائف. وهو تعايش فريد من نوعه في أوروبا آنذاك. فمعظم الدول ما كانت تقبل إلا بمذهب واحد في أراضيها، وكانت تحرِّم كل المذاهب المسيحية الأخرى تحريماً قاطعاً باعتبار أنها منحرفة عن الخط المستقيم للدين المسيحي، أي عن الأرثوذكسية. وبالتالي فهي مهرطقة، أو زنديقة، ويحل تكفيرها وإدانة أتباعها وحرمانهم من الحقوق السياسية والمدنية. وهذا ما فعله المذهب الكاثوليكي في فرنسا، وإسبانيا، وإيطاليا، والبرتغال، مع البروتستانتيين. وحدها انجلترا كانت تمشي في اتجاه التحرر من الطائفية والمذهبية، أي في الإتجاه الذي سلكته هولندا. بالإضافة إلى الصراعات اللاهوتية المذكورة كانت هناك صراعات على السلطة. وهي صراعات اندلعت بين عائلة "أورانج" الملكية، وبين المجالس المحلية التي تحكم المدن والأقاليم .

فبعد موت الملك غيوم الثاني وصل إلى السلطة شخص مستنير يدعى "جان دوفيت". وشهدت هولندا في عهده ازدهاراً للعلوم والجامعات. وتم إدخال الفلسفة الحديثة إليها، أي فلسفة فرانسيس بيكون، وديكارت، وهوبز. وانتعشت الحياة الثقافية وشهدت دور النشر نشاطاً كبيراً. وأصبحت هولندا منارة للفكر والآداب في كل أنحاء أوروبا.

وإذن لماذا نشر سبينوزا كتابه؟ لماذا دافع بشكل مستميت عن حرية الفكر في أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وليبرالية؟ لأن التسامح لم يكن كلياً ولا كاملاً. فنحن نعيش في النصف الثاني من القرن السابع عشر لا في القرن العشرين، ينبغي ألا ننسى ذلك. وأصدقاء سبينوزا وناشروه كانوا يعرفون مدى محدودية هذه الحرية. وقد دفعوا الثمن غالياً. وثانياً لأنه إذا كانت الدولة متسامحة، فإن الكنيسة لم تكن كذلك. كان هناك تفاوت كبير بين الحاكم جان دوفيت المشهور باستنارته وعقلانيته، وبين رجال الدين المتعصبين. وهو تفاوت أدى في نهاية المطاف إلى مقتل الزعيم الهولندي . وأخيراً يمكن القول بأن جو التسامح الذي كانت تعيشه هولندا كان مهدداً، وسبينوزا أول من يعرف ذلك بحسِّه الفلسفي الخارق. فمعروف أن المتشددين البروتستانتيين كانوا مرتبطين بالنظام الملكي المخلوع ويتمنون عودته لأنهم يكرهون جو الحرية والتسامح ولا يستطيعون تحمل كل هذه الزندقة الفكرية!!. صحيح أن النظام الليبرالي كان يبدو واقفاً على قدميه عندما كتب سبينوزا هذا الكتاب الحاسم في تاريخ الفكر. فزعيم هولندا الذي كان صديقه وحاميه كان يترأس جمهورية مزدهرة بالتجارة وذات مؤسسات راسخة ظاهرياً. ولكن بعد سنـتين فقط من ذلك التاريخ حصل الغزو الفرنسي لهولندا، وتمت تصفية الحكم الليبرالي، وأُعيد النظام الملكي الأصولي إلى سدة الحكم. وهكذا انهارت كل أحلام سبينوزا وصدقت تنبؤاته المتشائمة عن الأصوليين أو اللاهوتيين كما يحب أن يسميهم. فهم أصل العلَّة والبلاء : أي أصل الاستبداد والقضاء على الحرية الفلسفية.

ولكن كتاب سبينوزا، ككل كتاب فلسفي عظيم، يتجاوز الحالة الهولندية لكي يشمل الحالة الأوروبية وربما الكونية بأسرها. وهو يعكس عدة مستويات من الصراع. فهناك أولاً الصراع المتفجر بين اللاهوت والسياسة. من هنا عنوان الكتاب : مقالة في اللاهوت السياسي، أو بحسب ترجمة أخرى : مقالة في اللاهوت والسياسة. وهناك ثانياً الصراع الدائر في أوروبا منذ عصر النهضة بين الكتاب المقدس وفقه اللغة التاريخي أو ما يدعى بعلم الفيلولوجيا. فمعلوم أنه منذ القرن السادس عشر راح بعض النهضويين يدعون إلى تحقيق الكتاب المقدس تحقيقاً لغوياً وتاريخياً من أجل التوصل إلى نسخة صحيحة أو أقرب ما تكون إلى الصحة. وهو تحقيق سوف يؤثر على تفسيره بطبيعة الحال، ولذلك أثار ردود فعل غاضبة في أوساط الكهنة والمحافظين. وقد استعاد سبينوزا هذه المناقشة الكبرى وساهم في بلورتها. وهناك أخيراً الصراع الأبدي الكائن بين الفلسفة واللاهوت، وهو صراع يتجاوز حدود المسيحية الأوروبية لكي يشمل الإسلام والأرثوذكسية الشرقية وسواها. بهذا المعنى فإن كتاب سبينوزا كوني أو يتناول مسائل كونية. إن راهنيَّته بالنسبة للإسلام حالياً تبدو أكثر من واضحة وملحة..


في الواقع إن سبينوزا ناقش في هذا الكتاب مسائل كان ديكارت قد تحاشاها قبل ثلاثين أو أربعين سنة خوفاً من رجال الدين. من هنا جرأة سبينوزا وجدَّته بالقياس إلى ديكارت. صحيح أنه يُعتبر أحد تلامذة الفلسفة الديكارتية مثله في ذلك مثل لايبنتز (1646-1716)، والأب مالبرانش (1638-1715). ولكنه تجاوز الأستاذ من حيث أنه طبق منهجيته العقلانية على مجال آخر لم يجرؤ الأستاذ على الخوض فيه. لنستمع الآن إلى كلام أحد كبار مؤرخي الفلسفة في فرنسا فريدنان الكييه : "من المعلوم أن ديكارت كان حريصاً على الفصل الكامل بين مجالين للحقيقة، مجال الكتابات المقدسة التي تؤدي إلى نجاة أرواحنا في الدار الآخرة، ومجال الطبيعة الفيزيائية. وهنا يمكننا أن ندرس الظواهر بطريقة علمية من أجل التحكم بالطبيعة وتسخيرها لمصلحة الإنسان. وبحسب ديكارت فإن هذين المجالين إذا كانا منفصلين عن بعضهما البعض إلا أنهما ليسا متعارضين أبداً. على هذا النحو تحاشى ديكارت بكل مكر ودهاء غضب اللاهوتيين الذين كانوا ينتظرونه على قارعة الطريق لكي يبطشوا به إذا ما تعرض للدين، وحاول تطبيق منهجيته العقلانية عليه" .

والآن ماذا يقول سبينوزا؟ عندما نقرأ مقدمته للكتاب يخيل إلينا للوهلة الأولى أنه يتبع أيضاً نفس الحل الذي اتبعه سلفه الأكبر ديكارت. فبما انه حريص على حماية الحرية الفلسفية أكثر من حرصه على إنقاذ الإيمان، فإنه راح يحصر الفلسفة في مجالها، والدين في مجاله لكيلا يعتدي أحدهما على الآخر! يقول مثلاً: "اقتناعي العميق هو أن الكتابات المقدسة (أي التوراة والإنجيل) لا علاقة لها بالفلسفة على الإطلاق. وإنما كل واحد منهما ينحصر في مجاله الخاص بالذات. فالتعاليم التي تخص الروحانيات نستمدها من الكتابات المقدسة فقط وليس من تعاليم النور الطبيعي، أي العقل. وبالتالي فالمعرفة القائمة على الوحي تتمايز كلياً عن المعرفة الطبيعية أو العقلانية سواء فيما يخص موضوعها أم مبادئها الأساسية أم وسائلها ومنهجيتها. نستخلص من كل ذلك ما يلي : بما أن هذين النمطين من المعرفة مختلفان كلياً فإنه يمكن لكل واحدة منهما أن تمارس فعلها داخل مجالها الخاص دون أن تتناقض مع المعرفة الأخرى أو تدخل في معركة معها" ...

عندما نقرأ هذا المقطع وسواه نتوهم أن سبينوزا حل المشكلة عن طريق تحاشيها! فالفيلسوف العقلاني يتفلسف ويدرس الطبيعة دون أن يأخذ الكتابات المقدسة بعين الاعتبار أبداً. ورجل الدين (أو المؤمن) يقرأ الكتابات المقدسة أو يفسرها دون أن يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الفلسفية أو العقلانية الخارجة على الوحي. بمعنى أن حل العلاقة بين هذين القطبين الكبيرين تكون عن طريق اللاعلاقة : أي الفصل الكامل والقطيعة المطلقة. ولكن هل هذا ممكن؟ وهل ترك رجال الدين غاليليو يفسر الطبيعة على هواه؟ ألم يجبروه على التراجع عن مقولة دوران الأرض حول الشمس لأن الكتابات المقدسة تقول بعكس ذلك؟. في الواقع إن سبينوزا لا يجهل كل ذلك. ولكنه يتقدم في أرض ملغومة، هو يعرف أن أي خطأ يرتكبه سوف يُستخدم من قبل الأصوليين المسيحيين واليهود للإنقضاض عليه. فهم يشتبهون به مثلما كانوا يشتبهون بديكارت وأكثر. ولذلك فالحذر الشديد لازم، والفكر مشروط باللحظة التي يظهر فيها. وعظمة الفكر تكمن في حجم المقاومات التي يثيرها أو المخاطر التي يتحداها والتي تحيط به من كل الجهات. فالفكر ليس نزهة مريحة في واد من الزهور، وليس سيراً في طريق سهل، مفتوح إلى ما لا نهاية. الفكر في كل خطوة يخطوها، بل وقبل أن يخطو خطوة واحدة، يشعر بأنه يصطدم بالعقبات ويشعر بأن هناك مقاومة تعرقل تقدمه وتحاول إيقافه في أرضه أو وأده في مهده. الفكر، بالمعنى القوي للكلمة، هو تحرير من كل التراكمات المترسِّبة والإكراهات التي تضغط علينا وتسدّ الطريق.
عندما نتقدم في قراءة كتاب سبينوزا عن اللاهوت السياسي نلاحظ أنه لم يتقيد بالمبادئ الحذرة وربما التمويهية التي نصَّ عليها في المقدمة. فهو كان مضطراً لأن يتقدم مقنَّعاً، لأن يراعي الجو العام المحيط. والفلسفة بنت وقتها وعصرها كما يقول هيغل، ولا يمكنك أن تخرج كلياً على عصرك أو أن تهمل مشروطيته التاريخية. مهما تكن عبقرياً وسابقاً لزمنك فإنك مشروط بمصطلحاته، ولغته، ومسموحاته ومحرَّماته. يبتدئ سبينوزا الفصل الأول من كتابه بتحديد النبوة قائلاً بأنها معرفة يقينية أو محققة.

ولكن منذ الفصل الثاني نلاحظ أنه يقول لنا بأن الوحي يختلف من نبي إلى آخر بحسب طبعه، ومزاجه، وخياله، وظروف عصره. وبالتالي فنحن مضطرون لاستخدام النقد العقلاني من أجل فهم معنى كلامهم. وعلى الرغم من أن سبينوزا يقول بأنه لن يفسر الكتاب المقدس إلا من خلال الكتاب المقدس ذاته ولن يقحم عليه أي منهجية من خارجه، إلا أنه في الواقع يطبق عليه المنهجية الديكارتية، أي العقلانية. نقول ذلك ونحن نعلم أن ديكارت نفسه لم يتجرأ على ذلك عندما حصر منهجيته بدراسة الظواهر الطبيعية، ومنع تطبيقها على مجال الدين أو الإيمان. مهما يكن من أمر فإن جرأة سبينوزا على الاقتحام الفلسفي لم تكن تقل عن جرأة الفاتحين الكبار. فهو لم يتردد مثلاً عن تطبيق نظرية انكسار الأشعة الديكارتية على المقطع التوراتي التالي :"يا شمس قفي على جبعون، ويا قمر على وادي أيَّالون. فوقفت الشمس وثبت القمر، إلى أن انتقمت الأمة من أعدائها"... هذا المقطع وارد في سفر النبي يوشع. وهو يناقض العقل وقوانين الطبيعة. فكيف فسره شخص عقلاني محض مثل سبينوزا؟ قال بأن النبي يوشع لم يكن يعرف علم الفلك الحديث لأن هذا العلم لم يكن قد انوجد بعد. وبالتالي فتوهم أن الله أوقف الشمس فعلاً بطريقة خارقة للعادة. ولذلك فإنه جهل السبب الحقيقي لاستطالة النهار وتأخر الليل. فالواقع أن كمية الصقيع كانت كبيرة في تلك اللحظة في الهواء، فحصل انعكاس استثنائي لأشعة الضوء، وتوهم الناظرون أن الشمس توقفت في السماء ولم تعد تتحرك...

نلاحظ أن سبينوزا لا ينكر حصول القصة أو المعجزة. ولكنه يعزوها إلى أسباب طبيعية لا إلى أسباب خارقة للطبيعة. وهنا يكمن الفرق بينه وبين المؤمن التقليدي الذي يبتهج أكثر كلما كانت المعجزة أكثر انتهاكاً لقوانين الطبيعة. مهما يكن من أمر فإن سبينوزا يتجرأ على قول ما يلي : بما أن النبي يوشع كان يجهل قوانين الطبيعة فإنه لم يفهم المعنى الحقيقي لهذه الظاهرة الاستثنائية التي شهدها بأم عينيه. وبالتالي فإن مهمة النقد العقلاني تكمن فيما يلي : الكشف، بواسطة علم الفيزياء، عن القوانين التي كان يجهلها النبي. ولكن المعجزة بحسب تعريف سبينوزا تفترض التعليق المؤقت من قبل الله لقوانين الطبيعة : أي للقوانين التي خلقها هو نفسه من أجل تنظيم حركة الكون. وبالتالي فالمعجزة إذن مستحيلة. فالله لا يمكن أن ينـتهك القوانين التي سنَّها. وهنا نلاحظ أن الأمر ينتهي بسبينوزا ليس فقط إلى تقديم تفسير جديد للتوراة، وإنما إلى نفي المعجزات الواردة فيها. وهنا تكمن عقلانية سبينوزا المطلقة وبعضهم يقول وقاحته... وهي التي تميزه عن جميع مفكري عصره، بمن فيهم مالبرانش الذي كان عقلانياً أيضاً وديكارتياً، ولكنه لم يكن يستبعد حصول المعجزات لسبب استثنائي.
هذا فيما يخص اليهود والتوراة.

وأما فيما يخص المسيحية والإنجيل فإن سبينوزا تجرأ على رفض العقائد الأساسية للمذهب الكاثوليكي : كالتأكيد على تجسُّد الله في المسيح، أو القول بقيامة المسيح بعد موته ببضعة أيام، أو القول بالقربان المقدس : أي أن جسم المسيح ودمه موجودان حقيقة في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس.. فهذه خرافات في رأي سبينوزا، ولا يمكن لأي شخص عقلاني أن يؤمن بها. ولكي يترك مخرجاً للمسيحيين فإنه قال بتأويل هذه العقائد على أساس رمزي، لا حقيقي واقعي. فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن جسدية وإنما رمزية أو روحية، وتجسد الله فيه هو أيضاً على سبيل الرمز، وقل الأمر ذاته عن قطع الخبز الصغيرة وجرعات الخمر... وبالتالي فالتفسير الرمزي أو المجازي ضروري لكيلا يحصل تناقض فظيع بين الكتاب المقدس وبين المنطق والعقل. ولم يتردد سبينوزا عن القول لأحد أصدقائه: ينبغي تفضيل العقل إن لم يكن على الكتاب المقدس فعلى الأقل على ما نفهمه منه... ولكن هل يعني ذلك أن سبينوزا ينكر أهمية الدين أو بالأحرى فائدته؟ بالطبع لا. فالواقع أن العامة لا يمكن أن تجد خلاصها إلا عن طريق الخضوع للدين. وتُروى عنه الحكاية التالية. سألته يوماً مؤجِّرته التي كان يسكن عندها : هل يمكن أن أجد نجاتي عن طريق ديني وممارستي لشعائره وعباداته؟ فأجابها سبينوزا : دينك جيد يا سيدتي، ولست بحاجة إلى دين آخر غيره بشرط أن يكون ذلك من خلال التقى وأن تعيشي حياة هادئة ومسالمة ولا تؤذي أحداً..

في الواقع إن سبينوزا كان يعرف أن الدين يؤمن للناس البسطاء الطمأنينة النفسية التي لا يمكن أن يجدوها في أي مكان آخر. وبالتالي فمن غير المعقول أن يحرمهم من هذه الطمأنينة التي لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها. أما هو فكان يستطيع التوصل إليها عن طريق آخر غير الدين. وبالتالي فهناك جوانب إيجابية في الدين لا يمكن إنكارها. ولكن الشيء الذي كان يخيفه في الدين هو التعصب. نقول ذلك وبخاصة أن الصراعات المذهبية أو الدينية كانت حادة في هولندا عندما ألَّف كتابه. فالمذهب الرسمي المسيطر كان يحتقر المذاهب الأخرى على الرغم من أنها تنتمي إلى المسيحية مثله. فلم تكن تعتقد بضرورة ممارسة الشعائر والطقوس، وإنما كانت ترى أن جوهر الدين يكمن في محبة الآخرين، كانت ليبرالية جداً في فهم المسيحية، فعل الخير ليس إلا. ولم تكن تؤمن بالعقائد الأساسية المسيحية : كالتـثليث مثلاً، أو الإيمان بألوهية المسيح... ولهذا السبب تعرضت الطوائف البروتستانتية الليبرالية للاضطهاد والملاحقة وهذا ما أزعج سبينوزا جداً لأن الكثيرين من أعضائها كانوا أصدقاءه. فهو أيضاً لا يرى أن الدين هو المعاملة، وحسن الطوية، ومساعدة الفقير، ومحبة الآخر ولو لم يكن ينتمي إلى ديننا أو طائفتنا. وهذا الفهم الواسع للدين، والذي هو أخلاقي بالدرجة الأولى، كان غريباً جداً على عقلية الأصوليين المتزمتين الذين يختزلون الدين إلى جملة من الطقوس والشعائر الشكلانية الخارجية، وجملة من المحظورات والمحرمات، وجملة من العقائد اللاهوتية التي تخرج عن سيطرة العقل.

هكذا نجد أنه كان يوجد داخل المسيحية نفسها مفهومان للدين : مفهوم أصولي متحجر، ومفهوم ليبرالي متحرر. وكان الأصوليون يتهمون الليبراليين بأنهم من عَبَدة الشيطان! لماذا؟ لأنهم يرفضون رجال الدين ولا يعتقدون بضرورة أداء الطقوس والشعائر.. ولأنهم كانوا عقلانيين أو روحانيين في فهمهم للدين فإنهم أُتهموا بالزندقة، أو حتى بالإلحاد والكفر. فالأصولي يهمه قشور الدين وطقوسه الخارجية، لا جوهره ولا مضمونه. وفهم الأصولي للدين يكون عادة قمعياً، متجهماً، إرهابياً. وبالتالي فلا يستطيع أن يتحمل وجود هذه الطوائف المتسامحة جداً في فهمها للدين. نذكر من بينها طائفة الصاحبيّين (أو الكويكرز) التي كانت منـتشرة أيضاً في انجلترا. وهم الذين أثنى عليهم فولتير عندما زار انجلترا في بدايات القرن الثامن عشر. كما أثنى على تسامحهم وإنسانيتهم وقارن ذلك بتعصب الكاثوليكيين في فرنسا. وقد دعوا بالصاحبيين لأنهم كانوا يشكلون في البداية جمعية الأصحاب أو الأصدقاء التي تجتمع بشكل دوري من أجل التأمل من خلال فترات صمت طويلة. وهم لا يزعجون أحداً ولا يفرضون تديٌّنهم على أحد ويحبون جميع البشر بمن فيهم أولئك الذين لا ينـتمون إلى طائفتهم أو طرية فهمهم للدين. وقد أُسست جمعيتهم حوالي منتصف القرن السادس عشر، وهي عبارة عن فرع من فروع البروتستانتية. وينحصر تواجدهم اليوم في انجلترا، وهولندا، وبخاصة أمريكا. ولا يتجاوز عددهم اليوم المائتي ألف شخص في شتى أنحاء العالم. وهناك طوائف أخرى بروتستانتية ليبرالية غيرها. وعموماً كان أصدقاء سبينوزا ينتمون إلى هذه التيارات الدينية البعيدة عن التعصب.نذكر من بين هذه الطوائف بشكل خاص طائفة المنّونيين، نسبة إلى الكاهن الهولندي منّو سيمون (1496-1561).

على الرغم من أن سبينوزا كان صديقاً للتيارات المسيحية الليبرالية إلا أنه اصطدم أحياناً بالخرافات المنتشرة في أوساطهم. وهي خرافات يصعب اقتلاعها من النفوس لأنها متجذّرة منذ زمن طويل. ونقصد بها هنا الأفكار الشائعة عن الكتب المقدسة والتي يحتج بها المؤمنون ضد العقل كلما دعت الضرورة إلى ذلك. فالنقل يتغلَّب على العقل لدى المؤمنين بشكل عام. أو قل أن هيبة النصوص المقدسة، وهي هيبة راسخة منذ قرون عديدة في عقول البشر، تتغلَّب بالضرورة على هيـبة الفلسفة أو الفكر المنطقي. وعلى الرغم من أن سبينوزا كان يعيش في العزلة ويحرص على عدم نشر آرائه عن الدين، إلا أن سمعته كانت قد انتشرت وأقنعت الناس بأنه ملحد لا يؤمن بأي دين من الأديان بما فيها الدين اليهودي الذي نشأ فيه. وهذه السمعة كانت مخيفة في ذلك الزمان لأن كلمة ملحد كانت تعني تقريباً كلمة مجرم! وكان القانون الأوروبي يعاقب عليها أشد العقاب. بالطبع فإن سبينوزا لم يكن ملحداً بالمعنى الذي يقصدونه، ولكن فهمه الواسع للدين كان فوق مستوى أناس عصره. في الواقع إن سبينوزا لم يكن طائشاً ولم يهاجم الدين، وإنما هاجم اللاهوتيين وطريقة تفسيرهم للدين. وهنا يكمن فرق كبير. ولكن عامة الناس لا تفرق بين الدين ورجاله. فأنت إذا ما هاجمت الأصوليين أو رجال الدين فإنهم يعتقدون أنك هاجمت الدين! مهما يكن من أمر فإن هدف سبينوزا من وراء تأليف كتابه عن اللاهوت السياسي هو تقديم تفسير جديد للدين وللنصوص المقدسة. وهو يحرص على القول بأن هذا التفسير لا يتعارض مع النظام السياسي الجمهوري ولا مع الحرية المطلقة للتفكير. وحده تأويل الأصوليين للدين يتناقض مع ذلك. والبعض يعتقد أن تصور سبينوزا لله لم يكن بعيداً جداً عن تصور أديان التوحيد. ولكن الكثيرين من الآخرين يعتقدون العكس. فهم يرون أنه كان أقرب إلى مذهب الحلولية ووحدة الوجود. مهما يكن من أمر فربما كان موقفه أقرب إلى الإيمان منه إلى الإلحاد بالمعنى المادي المحض للكلمة. وعلى أي حال فإن أحداً لم يتحدث عن الله مثلما تحدث هو، ولم يكرر كلمة الله على مدار كتبه مثلما كررها هو. فإذا كان ملحداً بعد ذلك، فإنه ليس بالمعنى المبتذل أو السهل أو الرخيص الشائع.

ينبغي العلم بأن نقطة انطلاقه الأولى في الكتاب المذكور هي الوحي الذي يعترف به بدون أي مناقشة. فأنبياء العهد القديم وحواريو العهد الجديد استطاعوا التوصل إلى مجموعة صغيرة من الحقائق الأساسية الضرورية لهداية الإنسان في هذه الحياة. لقد توصلوا إليها عن طريق آخر غير طريق الفلسفة. وأولى هذه الحقائق هي أنه يوجد إله، والله هو الذي يسهر بعنايته على البشر ويأمرهم بأن يحبوا بعضهم بعضاً. وكل اللاهوت الديني يختزله سبينوزا إلى هذه الفكرة الأساسية. والاعتقاد بصحة ذلك يعني أنك شخص مؤمن. وتطبيق هذا الأمر في الحياة العملية يعني أنك تقيٌ ورع. وسبينوزا يعتقد أن طاعة الله والإيمان به وتنفيذ أوامره التي تتلخص كلها بمحبة الآخرين، تكفي لنجاة الإنسان أو خلاص روحه في الدار الآخرة. وليس بحاجة إلى الإيمان بشيء آخر، أو ممارسة أية طقوس أو شعائر.. هكذا نلاحظ أنه بسَّط الدين إلى أقصى حد ممكن وأعاده إلى جوهره الحقيقي : التقى، الورع، الاستقامة، محبة الآخرين.

في الواقع إن التفسير العقلاني الذي قدمه سبينوزا عن الكتابات المقدسة يهدف بالدرجة الأولى إلى بلورة نوع الأخلاق الإجتماعية التي تجنِّب البشر الصراعات الطائفية والمذهبية. فالمبدأ اللاهوتي الذي نصّ عليه لا يمكن أن يُرفَض من قبل أي دين او مذهب. لا يوجد دين يرفض المبدأ القائل بمحبة الآخرين أو مساعدتهم ومعاملتهم بالحسنى. ولكن الطقوس والشعائر والعقائد التي تختلف من دين لآخر هي التي تفرق بين البشر وتشعل الحروب المذهبية والعصبيات الطائفية. وإذن فسبينوزا حاول حلَّ مشكلة اجتماعية خطيرة كانت تهدد هولندا التي يعيش فيها المسيحيون بشتى طوائفهم وكذلك اليهود.. فهؤلاء، لكي تجنّبهم الشقاقات والنـزاعات، ينبغي أن تجمعهم على مبدأ واحد يكون بمثابة القاسم المشترك للجميع. وبعدئذ يستتبُّ السلام العام في المجتمع وبمكن للفلاسفة أن يتفرغوا لأنفسهم وتأملاتهم بدون أن يعكِّر ضجيج العامة صفوهم او يهدد طمأنينـتهم. وعندئذ تبتدئ بلورة الطريق الآخر المؤدي إلى الحقيقة : أي طريق الفلسفة، لا طريق التسليم والدين...

في الواقع إن مشكلة سبينوزا كانت هي الكثرة : أي أغلبية الشعب التي سرعان ما تستفزها الأهواء والعصبيات فتنهض لكي تحرق الأخضر واليابس. وهي أكثرية عاجزة عن فهم الفلسفة أو الارتفاع إلى مستوى المعرفة الفلسفية. ولذا فمن المستحسن أن نقدم لها أخلاقاً عملية قائمة على الإيمان والدين المتسامح. ولذا لم يحاول سبينوزا أبداً تغيير عقلية أصدقائه أو جيرانه الذين كانوا يجدون طمأنينتهم في الدين وممارسة طقوسهم وشعائرهم. فما داموا يعيشون بسلام وأمان ولا يؤذون أحداً فإن تديُّنهم جيد ومقبول عند الله. ولكن إذا حاولوا الاعتداء على الآخرين أو إجبارهم على ممارسة الشعائر والطقوس أو إكراههم على اعتناق نفس العقائد، فإن تديُّنهم يتحول إلى تعصب غير مقبول. وهو تعصب يهدِّد السلام الاجتماعي في بلد يعجُّ بالطوائف والمذاهب المختلفة. في الواقع إنه كان يرفض شخصياً كل الطقوس والشعائر سواء أكانت مسيحية أم يهودية. لماذا؟ لأن جوهر الدين يكمن في مكان آخر، ولأن اختلافها من هذا الدين إلى ذاك، بل وأحياناً من هذا المذهب إلى ذاك، يدلُّ على عرضيّتها وطابعها التاريخي المحض. وبالتالي فهي ليست ملزمة وخاصة بالنسبة للفيلسوف. أما بالنسبة للعامة فبإمكانهم أن يمارسوها إذا كانت تؤمِّن لهم الراحة النفسية.

ولكن ماذا نفعل إذا ما عثرنا على تناقض بين أحد مقاطع التوراة وبين العقل؟ سبينوزا لا يتردد لحظة واحدة في الإنتصار للعقل وإهمال المقطع المذكور واعتباره شيئاً مضافاً من قبل النسّاخ إلى الكتاب المقدس، والتالي فهو ليس منه ولا يلزمنا بأي حال. وأخيراً نطرح هذا السؤال : ماذا كان موقف المعاصرين من كتاب سبينوزا بعد صدوره؟ على الرغم من أنه لم يوقع اسمه عليه، وعلى الرغم من كل الاحتياطات التي اتخذها إلا أنهم عرفوا بأنه هو الذي ألَّفه. وقد أجمع اللاهوتيون على تكفيره والتنديد بأفكاره الهدّامة والخطرة على الدين. ففي رأيهم إنه لا يمكن اختزال الدين إلى مجرد طاعة الله ومحبة الآخرين، وإنما هناك أشياء أخرى غير ذلك أو بالإضافة إلى ذلك هناك الطقوس والشعائر والعقائد... ثم قالوا بأن فكر سبينوزا يتعارض مع تعاليم الكنيسة المسيحية وبالتالي فلا يمكن القبول به لأن ذلك يعني الخروج عن الدين... ولكن هذه الإدانات الصادرة عن رجال الدين والتي كانت متوقعة لم تمنع انتشار الكتاب وحصول ضجة كبيرة حوله. وبما أنه مكتوب باللاتينية، أي لغة الثقافة في كل أنحاء أوروبا آنذاك، فإنه انتشر خارج هولندا : أي في ألمانيا، وفرنسا، وانجلترا.
وتصدى الكثيرون له إما لشرحه، وإما لدحضه، وإما للاثنين معاً. في الواقع إن أطروحته القائلة بأن الفلسفة لا تهدّد الدين لم تقنع الكثيرين، وبخاصة إذا ما أخذنا الدين بالمعنى الشائع في المجتمع لا كما يتصوره هو. فالدين، بالنسبة للمسيحي العادي، كان عبارة عن طقوس وشعائر وأسرار ربانية غيبية قبل كل شيء آخر. وبالتالي فالمفهوم العقلاني الذي قدمه عن الدين ما كان بإمكانه أن يواجه المفهوم التقليدي الراسخ منذ مئات السنين. سوف ينتصر مفهومه عن الدين ولكن لاحقاً: أي بعد مائتي سنة، بعد أن تتقدم الشعوب الأوروبية، وتتعلّم، وتستنير... حقاً لقد جاء سبينوزا قبل الأوان بوقت طويل...